على منصور يكتب تخبط الإدارة المدنية بوسط دارفور عبث بالسلطة وتجاوز الموروث التاريخي

على منصور يكتب تخبط الإدارة المدنية بوسط دارفور عبث بالسلطة وتجاوز الموروث التاريخي
على منصور يكتب تخبط الإدارة المدنية بوسط دارفور عبث بالسلطة وتجاوز الموروث التاريخي

 ضل الحراز 



تخبط الإدارة المدنية في وسط دارفور: عبث بالسلطة وتجاوز للموروث التاريخي



بقلم: علي منصور حسب الله


في خطوة مفاجئة كشفت عن غياب البوصلة السياسية والإدارية، أصدر رئيس ما يُسمى بالإدارة المدنية لولاية وسط دارفور قرارًا حمل الرقم (34) لسنة 2025م، قضى بإعفاء عدد من رموز الإدارة الأهلية التاريخية، وعلى رأسهم الدمنقاوي الدكتور التجاني سيسي محمد أتيم ووكيله سيسي فضل سيسي، بالإضافة إلى شخصيات ذات ثقل اجتماعي وتاريخي، كالأمير محمد موسى أحمد عبد الله، الوزير السابق بالولاية، والشرتاي محمد صالح عمر أحمد زروق، والشرتاي محمد أرباب رزق. وهما من الشرتاويات التاريخية في دار ديما، التي حكمت زهاء 430 عامًا دون انقطاع، في ظل سلطنة الفور، إذ استمر حكمهم وإمارتهم الإسلامية حتى عام 1874م، ثم في عهد السلطان علي دينار، وفي الحقب الاستعمارية والحكم الوطني بعد الاستقلال.

فهم أصحاب الحواكير التي كانت تحفظ للدولة كيانها وحدودها، بالإضافة إلى دورهم في حفظ العلاقات بين المكونات القبلية والإثنية داخليًا وخارجيًا، كما حافظوا بشكل قوي على العلاقات بين الكيانات المجتمعية في المناطق الحدودية.

أما الديمنقاوي، مع المقاديم في سلطنة الفور، فهم بمثابة رؤساء قطاعات في مختلف المناطق، ويقومون مقام السلطان في قطاعاتهم، ولهم كافة الصلاحيات السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. وخير نموذج لهذه الإدارات هو المقدوم مسلم، الذي كان مسؤولًا عن سلطان الفور في كردفان، وهو أول من واجه القوات التركية هناك عام 1822م، واستشهد في معركة بارا، عاصمة المقدومية. وقد ذكرت بعض الروايات التاريخية أن مصطلح "المقدوم" ظهر عام 1800م كموظف يعمل خارج الترتيب الهرمي القديم للألقاب الإدارية التي اشتهر بها نظام سلطنة الفور، فهو مفوض ونائب ملك يُعين لمهام محددة، إما حكمًا أو قيادة حملة، وعند تعيينه يُمنح شارة الملك، والقرآن، والسجاد، والككر، والرماح.

فكيف لشخص حديث العهد بالدولة السودانية أن يعزل الديمنقاوي، حاكم دار أباديما الواقعة في الجنوب الغربي (بولاية غرب دارفور)، التي تنقسم إلى اثنتي عشرة شرتاوية؟ وكانت الشرتاوية تُقسم إلى عدد متفاوت من الزعامات المحلية أو الدملجيات، يديرها دملج. وكان لبعض الشرتاويات الكبرى رؤساء يُدعون "سامبي"، وتعني بلغة الفور "حربة"، يعملون كوكلاء للشرتاي في التعامل مع الدماليج. وتُعد أباديما بمثابة مقدومية، أي ما يعادل والي الولاية، ويحكم صاحبها اثنتي عشرة شرتاوية، وله إقليم واسع وجميع ما للسلطان من الشارات والأبهة، ما عدا النحاس، الذي يُعد كناية عن ساعد السلطان الأيمن. ووظيفته أن يسير مع عساكره عن يمين السلطان في الحرب.

فالقرار الذي أصدره والي ولاية وسط دارفور، الكمرد مصطفى نصر الدين تمبور، استند إلى قانون الطوارئ والسلامة العامة لسنة 1997م، بالإضافة إلى قوانين الإدارة الأهلية لعامي 2024 و2025. وقد قضى بإعفاء قيادات المستوى الثاني من عمد الإدارة الأهلية في الولاية، البالغ عددهم (63) عمدة، بسبب تجاوزهم حدود الصلاحيات القانونية، وارتباطهم المباشر بمليشيا متمردة ارتكبت انتهاكات جسيمة ضد المواطنين.

لم يكن القرار عبثيًا أو صراع نفوذ، بل جاء كرد فعل قانوني ومؤسسي على تجاوزات خطيرة موثقة، إذ ثبت أن العديد من العمد المعزولين انخرطوا فعليًا في أعمال تنسيق وتحريض مباشر مع المليشيات، ليس فقط بتوفير الدعم اللوجستي والمأوى، بل بتجنيد الأفراد والمشاركة في الجرائم التي ارتكبت بحق المواطنين في قارسلا، وبندسي، وازوم، ومكجر، وزالنجي. بل الأخطر أن عددًا من هؤلاء العمد كانوا يحملون رتبًا تنظيمية داخل هذه المليشيا، ما ينسف حيادهم المفترض ويكشف عن تواطؤ خطير.

ومن أبرز الأسماء التي شملها القرار:

داود دهب عبده – عمدة قبيلة الرزيقات الماهرية (قارسلا)

حمدان عمر أحمد – عمدة قبيلة السلامات (قارسلا)

فضل الله محمد فضل الله – عمدة قبيلة خزام (قارسلا)

عبد الله محمد مهدي – عمدة قبيلة المسيرية جبل (قارسلا)

عبد الغني هارون عبد الله – عمدة قبيلة المهادي (قارسلا)

ياسين كوكاب – عمدة قبيلة الرزيقات النوايبة (قارسلا)

يوسف إسحاق النور – عمدة المسيرية (أم دخن)

حمادي عثمان أحمد النور –عمدة قبيلة خزام (زالنجي)

إدريس يحي النور – عمدة قبيلة تاما (ازوم)

أحمد باجوري جزم – عمدة قبيلة بني هلبة (ازوم)

أحمد حامد علي – عمدة قبيلة أولاد زيد (ازوم)

أحمد موني حمودة – عمدة قبيلة أولاد جنوب (ازوم)

محمد أحمد علي – عمدة قبيلة المسيرية (بندسي)

الرضى أحمد المصطفى – عمدة قبيلة بني هلبة (مكجر)

بدر الدين أحمد الفضيل – عمدة قبيلة الحوطية (زالنجي)

رد الفعل المسمى بالإدارة المدنية، والمتمثل في عزل التجاني سيسي ومن معه، لم يكن سوى انزلاق في مستنقع تصفية الحسابات وتسييس الإدارة الأهلية. فمن يملك صلاحية إعفاء الدمنقاوي؟ ومن يجرؤ على إقالة وكيله سيسي فضل سيسي، الذي نُصّب وفق تقاليد موغلة في العمق التاريخي والاجتماعي؟ هل أصبح تاريخ الإدارة الأهلية مجرد ورقة للمساومة؟!

الدكتور التجاني سيسي ليس مجرد اسم إداري، بل هو حفيد مؤسسة الدمنقاوية التي تأسست في دار ديما، وكان والده، سيسي محمد أتيم، دمنقاويًا لحاضرة الفور في الغرب، يحكم بأمر السلطان ويصدر أحكام الإعدام دون منازع، في مكانة تفوق حتى المقدوم آدم رجال نفسه في الجنوب. فكيف بمن لا يملك امتدادًا تاريخيًا في المنطقة، وكان أجداده مستضافين لدى بيت الدمنقاوية، أن يصدر قرارًا بعزل رأس البيت الذي احتضنهم تاريخيًا؟!هل يعلم من أصدر هذا القرار أن حفيد أرباب أحمد شطة ، الذي أُعفي بموجب القرار (34)، هو حفيد "أحمد شطة" رجل المهدية الشهير؟! وهل يعلم أن شرتاويته كانت تُهز لها الأرض منذ عهد سلطنة الفور؟! هل بلغ بنا الحال أن يُعزل الشرتاي بقرار من شخص لا يملك لا شرعية تاريخية ولا سندًا قانونيًا؟! هذا القرار لا يعدو كونه استفزازًا مباشرًا لأعمدة النسيج الأهلي والاجتماعي في دارفور، ويفتح الباب أمام فتنة اجتماعية لا تُحمد عقباها.

يكشف قرار الإدارة المدنية عن اتجاه مدروس لاستهداف المكون الأهلي والتاريخي في المنطقة، وربما تمهيدًا لفرض أمر واقع جديد عبر المليشيات الوافدة. فقد لوحظ في الأشهر الأخيرة تحركات عسكرية ومدنية تشير إلى نوايا لإعادة توزيع السكان والاستيلاء على أراضٍ لا يملكها الوافدون تاريخيًا. فهل تحولت الدولة من حكم القانون إلى حكم المليشيات؟! هل سيُطرد أصحاب الحواكير ويُمنح مكانهم للمتمردين؟! هل نعيش لحظة "استيطان أهلي" جديدة؟!


كلمة أخيرة:


إن قرار الوالي تمبور كان خطوة شجاعة لإعادة الانضباط إلى المشهد الأهلي والإداري. أما قرار ما يُسمى بالإدارة المدنية، فهو فاقد للسند، لا قانوني ولا تاريخي ولا حتى عرفي. لقد تجاوز هذا القرار حدود السلطة، وتعدّى على الموروث التاريخي، وفتح بابًا للفوضى الإدارية والاجتماعية. وعلى الدولة، والمجتمع المدني، والقوى السياسية، أن تتصدى لمثل هذه القرارات العبثية. فدارفور ليست ساحة لتجريب الفوضى، والإدارة الأهلية ليست كيانًا سياسيًا يخضع للمزايدات، بل هي إرث يجب احترامه وصونه، لا تشويهه بقرارات الغرض والانفعال.


تعليقات